٭ شابة تحمل ملامح عجوز تخطت الستين.. حكت لي مأساة بكل معايير المآسي التي غرق فيها إنسان السودان متروك له مجال الاختيار.. اختيار نوع المعاناة ولا اختيار إلا المعاناة.. معاناة عطالة.. معاناة مرض.. معاناة تعليم.. معاناة.. معاناة.. ولا شيء غيرها.
٭ حكت لي الشابة العجوز عن الداء الذي حصد الأسرة، أسرتها الصغيرة أخواتها الثلاث ووالدها بقيت هي وأمها وأخ صغير.. قالت انه «التيبي» زحف على الصدور وذهب بها وبأصحابها.
٭ ظللت استمع إليها في صمت أبله وما أقسى أن يصاب الصمت بالبله.. في مرات متقطعة كنت أمسح دمعة خجلى تغافلني وتجد طريقها.. استطعت أن أساعدها في ايجاد عمل خفيف هي أيضاً كانت مصابة لكن جهود مكافحة الدرن أمنت لها العلاج وهي مازالت تحت برنامجه.
٭ أذكر جيداً عام 8991 وفي شهر ديسمبر قام تلفزيون ولاية الخرطوم بتحقيق حول ظهور بعض حالات السل الرئوي باحدى مدارس الأساس بمحافظة كرري.
٭ التحقيق كان مكتملاً وجريئاً وعميقاً المذيعة ذهبت إلى المدرسة وذهبت إلي السلطات الصحية التي أثبتت المعلومات.
٭ بالصدفة اكتشف طفل بمرحلة الأساس يعاني من داء الصدر اللعين ومن خلال الحالة تم اكتشاف ست حالات أخرى واتسعت الدائرة لتصل ستين حالة مشتبه فيها.
٭ والمحزن وقتها كان موقف مدير المستشفى الذي ذهبت إليه فهو لم ينف أو يؤكد وإنما لزم الصمت كأن الصمت يعالج الواقع الأسود وكأن الصمت يلعب دورا في التوعية.
٭ يومها تألمت وحزنت وبكيت ولكن لم استغرب من ظهور هذا الداء الذي اختفى من العالم منذ وقت طويل اختفى بفعل التغذية السليمة والتوعية بخلق البيئة المعافاة.. فالسل ابن شرعي للفقر وسوء التغذية ومع ذلك هو مرض لعين ينتقل بالهواء ويسلب الحيوية والنشاط والقدرة على العمل وعلى التحصيل.. هو الموت بالأقساط المتعبة هو التخلف والاهمال ونحن نعاني من كل هذا.
٭ لا أريد أن أبث الذعر لكن تخيلوا معي ان الاشتباه في مدرسة واحدة يبلغ الستين عام 8991 ومع تقدمنا إلى الخلف كيف أصبح الحال اليوم والسل التقى برفيق درب هو الايدز والسرطان.
٭ فهل هذا يعني ان جحافل السل تهاجم بانتظام الحياة في عاصمة المشروع الحضاري وان كانت الملاريا تدمر الأدمغة فالسل يدمر الحاضر والمستقبل فكيف نتصور الغد وبماذا نفسر للعالم وللحضارة وللضمير أن تصبح عاصمة السودان مكاناً آمناً لهذا الداء اللعين.
٭ أرأيتم إلى أي عمق تتجذر مأساة الإنسان السوداني.. هلا أعلنا حالة طوارئ لمحاربة الفقر ودعونا من الاهتمام بالمظهريات والسياسات الاقتصادية التي قادتنا إلى ما نحن فيه الآن وتقودنا إلى الجحيم.. قلبي على أطفال بلادي وشباب بلادي وإنسان بلادي.
هذا مع تحياتي وشكري
الصحافة