ما زالت تداعيات فاجعة غرق 22 طفلاً بنهر النيل تكسو أجواء الخريف والعيد الحزينة بمزيد من الحزن والأسى، ومازال الشعب السوداني يحبس أنفاسه خوفاً على أهلهم، حتى فضائيات العالم ما زالت تفرد له مساحات واسعة دهشة وتعجباً، إلا قنواتنا الخبر بالنسبة لها عابر فالأطفال الذين غرقوا ليس بينهم إبن مسؤول في الحكومة أو المؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية.
الرجل الأكثر فجيعة والد الخمس زهرات اللائي ذبلن في لحظة واحدة إلتقته قناة الجزيرة تحدث عن فجيعته بصبر، بدأ حديثه بالحمد على قضاء الله وقدره وعرف نفسه وبناته الخمس، وحكى إنهم في المنطقة ظلوا يعانون من مشكلة ذهاب وإياب أطفالهم للمدرسة بالمراكب عشر سنوات وقد طالبوا بإيجاد حل ولكن لم يتلفتوا إليهم، وقال طيلة هذه السنوات كانوا يعيشون في خوف ويتوقعون مثل هذه المصيبة ولكنهم لا يدرون متى ستقع، أي إنهم عشر سنوات يحبسون أنفاسهم ويضعون أياديهم على قلوبهم يومياً منذ الصباح حين يذهب أطفالهم للمدرسة وحتى يعودوا إليهم، ثم ينامون في قلق من غد حيث تبدأ نفس الرحلة، وقال بعد هذه الفاجعة ليتهم ينظرون لقدام وختم كلامه بقوله (بعد دا ما فضلت لينا حاجة ليسوُّا لينا كبري) نعم لم يبقَ لهم شيء غير الحزن والأسى وجرح لن يندمل أبداً، حتى وإن أقيم الكبرى فسيظلون في انتظار مراكب الحزن لتحملهم يوماً إلى أطفالهم في الجنان حيث يرعاهم الله.
حادث غرق الأطفال ليس هو الفاجعة الأولى في السودان وحتماً لن تكون الأخيرة ، فلم تمر علينا سنة واحدة في ظل حكم المؤتمر الوطني المشؤوم من غير فواجع، ولكن هذا الحادث هو الأكثر مأسوية وسيظل محفوراً في ذاكرة كل المواطنين وسيبقى قصة تحكى عبر التاريخ ونقطة سوداء في صحفات الحكومة التي ازدحمت بالنقاط السوداء، وهي فضيحة أخلاقية ما بعدها فضيحة ولكنها لن تخجل فليس من شيمتها الخجل، وإلا لرحلت وماتت بعد حدوث أول فاجعة بعد وصولها للحكم وما أكثر الفواجع التي أنتجتها ومازالت تنتجها وستظل.
المؤلم حقاً ما قاله السيد والي ولاية نهر النيل في برنامج حتى تكتمل الصورة، قال إنه يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية وإنه مستعد لأي قرار تتخذه الحكومة، واعترف بالتقصير وقال إنه كان يمكنهم تفادي هذا الحادث بإنشاء كباري أو توفير أطواق نجاة على عدد المراكب وتعيين ناس مسؤولين من تحريك المراكب والإشراف عليها وإنهم بصدد مراجعة الأمر والتحقيق لمعرفة أسباب وقوع الحادث وهو يسأل (وقع ليه)؟ تخيلوا!!.
السيد الوالي دون أن يرف له جفن قام بتسميع الحلول التي يمكن أن تمنع وقوع مثل هذه الفاجعة ويعترف إنه لم ينفذها، (طيب كنت شغال شنو؟) حتى المدرسة التي يغامرون من أجلها متهالكة مما يدل أن سيادته (قاعد ساكت) مثل زملائه في بقية الولايات ينتظرون في مكاتبهم الباردة ويخرجون منها إلى قصورهم الفارهة ولا يلتفتون إلى المواطن إلا حين تقع الكوارث ولا يقدمون شيئاً غير الوعود الكاذبة ما قاله الوالي عن إنه يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية ليس شجاعة منه وحتى إن قدم استقالته أيضاً ليست شجاعة، رغم إنه لن يفعل خوفاً على المنصب وحتى وإن فعل لن تقبل منه ولن يحاسب فهذا إنجاز يحسب له وليس عليه، كان سيكون شجاعاً فعلاً إن قال حديثه هذا وانتقد أوضاع هؤلاء الناس وطالب لهم بحقوقهم منذ أن عُيِّن والياً على الولاية حينها كان سيقال ويطرد من رحمة الحكومة.
السؤال المهم عندما خيَّرت الحكومة هؤلاء الناس ومنحتهم الخيار المحلي ألم تضع في حسبانها إنها يجب أن توفر لهم الخدمات أقلها التعليم، وأين ممثلهم في البرلمان أم إنه لم يعد يعرفهم؟!. الذي لا أشك فيه إنه حتى وبعد هذه الفاجعة لن تفعل الحكومة شيئاً كعهدنا بها وستمر مثلما مرت الكثير من الفواجع التي راح ضحاياها أطفال حتى في الخرطوم، فكل المسؤولين أبناؤهم في أمان يذهبون إلى المدارس الخاصة والأجنبية محمولين على مقاعد الفارهات، لا يعرفون مراكب ولا لواري ولا دواب، وأي وعد قطعته الحكومة الآن مجرد كذبة أخرى لن تتحقق مادامت هي موجودة في السلطة، ولكن الفاجعة الكبرى حقاً هو استمرار السكوت عليها لتزيدنا فواجع.