خلصنا فى المقال السابق الى حقيقتين فى مايخص ماقامت به الانقاذ لانجاز التخريب :
الاول هو تخريب البنية التحتية لكل ماهو انتاج، وبالتالى وقف تطور الطبقات الحديثة المرتبط بانجاز التوعيه وبانتشارها.
والثانى هو نشر فكر الخرافة والدجل ومحاربة الفكر الداعى للوعى .
فى مواصلتنا للموضوع نعطى نموذجا لفكر الحزب الشيوعى الذى يربط بشكل لافكاك له بين التنمية الاقتصاية الاجتماعية وانتشار الوعى . ونموذجا آخر للحرب التى شنتها وتشنها قوى الاسلام السياسى بمختلف المسميات التى اخترعها عرابها غالبا لاخفاء لهويتها ومراميها ، الحرب على كل ما يرمى للتوعية فى شتى مجلاتها التى لاتنفصل عن بعضها .
المثال الاول: قضية الجنوب :
بينما اعتبرت أغلب الفصائل السياسية السودانية القضية انعكاسا للفروقات الاثنية والدينية وللدور الذى قام بع الاستعمار لتأجيج الفتن بين شطرى الوطن على اساس توسيع تلك الفروقات ، فان الحزب الشيوعى فطن الى ان المكون الرئيس للقضية هو التنمية غير المتوازنة بين الشطرين ، وان الاسباب الاخرى ماهى الامظاهر لذلك المسبب الرئيس . وهذا تقريبا ملخص ما قدمه الحزب فى مؤتمر المائدة المستديرة ، بعد ثورة اكتوبر الشعبية ، وماورد من بعد فى البيان الذى تبنته مايو فى شهرها الاول ، كجزء من خطة اكتساب الدعم الشعبى . وعندما تولى الشهيد جوزيف قرنق أمر الوزارة ، كانت الخطة تعتمد على ساقين لنفس ذات التنمية الاقتصادية والاجتماعية :
الساق الاولى كانت ردم الهوة التنموية بين الشطرين . فى هذا الاتجاه لم تقبل الوزارة نصيب وتوزيع الاستثمارات فى الجنوب ، التى انحصرت فى انشاء صناعات ، علاقتها الوحيدة بذلك الجزء الذى كان من ارض الوطن، هو توفر المواد الخام . كما ان جملة ماوجه من الخطىة الخمسية للتنمية لم يصل الى 15% من كامل منصرفاتها . ولذلك سعت الوزارة لمعالجة الامر باقتراح ماأسمته خطة تنمية محلية تتوجه نحو تنمية المجالات الاساسية فى الجنوب : الزراعة والغابات والثروة الحيوانية ، مع الوضع فى الاعتبار مستوى تطور القوة المنتجة وقتها .
الساق الثانية كانت : التوجه نحو الطبقات الحديثة من عمال ومزارعين الى جانب القوى المدنية فى الشباب والمرأة .. الخ وربطها بمثيلاتها فى الشمال كأساس متين للوحدة .
وبالطبع فان مثل هذه الاتجاهات للحلول الجذرية لايمكن تقبلها من من لايرى الارتباط الوثيق بين التنمية الحقيقة والسياسة . وللمقارنة ننظر الى ما وصلت اليه حالة المجالات الانتاجية فى عهد الراسمالية الطفيلية المتاسلمة ، والتى بطبيعة تكوينها الطبقى والمعتمد على تفسير ذاتى للنصوص الدينية لتبرير النهب ولاقناع عامة الناس بشرعية الافعال ! وللحقيقة ، فان الحركة الشعبية نفسها , والتى تحولت عدة مرات ايديولوجيا فى مسيرتها ، وخصوصا بعد فقدان ربانها بمجرد وصولها للمشاركة فى حكم السودان ، قد سلمت قيادها لدهاة الجبهة , الذين لم يتوانوا عن تعليمهم بنفس المنهج ، بل وتخريجهم بدرجة الدكتوراة قبل تسليمهم مفاتيح الشطر الجنوبى ، لينفردوا من ثم بالشمال ” المسلم “!
استخدمت الانقاذ كل الاساليب المتاحة والمبتدعة تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة ، وذلك ليس لتخريب مجالات الانتاج المختلفة ، بل ولتخريب الفكر التنموى نفسه . فقد اقتنع الكثيرون حتى من من نالوا تعليما عاليا ، بان الطرق والكبارى والبنايات العالية ، التى انشات غالبا لذاتها ، او لذات من انشاها (!) ، من غير اعتبار لارتباطها بمشروعات تنموية موازية . اقتنعوا بانها دليل على تطور يحدث لم يقم به من سبق . بل وصل الحال بأحد الحاصلين على درجة الاستاذية فى الاقتصاد ان يدافع عن اتجاهات الانقاذ التنموية بالقول : انك تستطيع اليوم ان تأكل ساندوتش الهوت دوج فى منتصف الليل وانت فى الحاج يوسف ، مثلا ! فهل من الغريب ان يقول المشير عمر بان من انجازات الانقاذ تعليم الشعب السودانى أكل هذه الوجبة !
لقد وصل هذا التخريب الى بعض المفاهيم الراسخة لدى الشعب السودانى . فبينما كان الزواج غاية فى حد ذاته يطلب ويكتمل بما يمكن ، اصبح اليوم ، وبفعل الطبقة سارقة الثروات ، أصبح مسرحا لاستعراض الثروة المسروقة وبأشكال تضحك من البكاء . انواع السيرات والقاعات الثلاثية والاكل بل والتفنن حتى فى اسلوب دخول العرسان ورقص العروس ، ثم عدد المغنيين ونوعية الاغانى ، هذا اذا لم نذكر بشكل متفرد زواج الاميرة بنت أخ المشير وما حدث فيه من بذخ على ايام تفجر المشكل الاقتصادى.
قد تبدو هذه القضايا بعيدة عن ان تكون سببا مباشرا فى تأخر الثورة الشعبية ، ولكنا لو أمعنا النظر فليلا لوجدنا انها فى القلب تماما من الامر . فبدمار السكة حديد والنقل الميكانيكى والمخازن والمهمات والخطوط الجوية والبحرية والصناعات العامة والخاصة ،عدا السكر، الذى هو الاخر فى طريقه الى نوع من الاختفاء او على الاقل النزواء ، بينما تقول منظمة الفاو ان السودان ثالث ثلاثة اقطار فى العالم من حيث توفر عناصر انتاجه ، بالاضافة الى التشريد المنظم للصالح العام او لاغراض سياسية والاغتراب الجماعى للعمالة السودانية ، كل هذا لاتكون نتيجته غير اضعاف الطبقة العاملة عدديا. ولم يكتف النظام بذلك بل توصل الى صيغة شيطانية فى تنظيم النقابات لتصبح النقابة بعضوية الوزير والخفير فى نفس الوقت وليصبح وزير الخارجية السابق بديلا للشفيع ! وطبعا المشاريع الزراعية وعلى راسها مشروع الجزيرة لحقت بمجالات الانتاج الاخرى ولحق اتحاد مزارعيها باخيه اتحاد عمال السودان . نظرة سريعة لعاصمة الجزير وللخرطوم بحرى تدلك على ماحدث بخطة محكمة وطويلة المدى ، ضمنت مع غيرها من خطط الشيطان ، ضمنت له البقاء خلال الثلاث عقود الماضية ، وفيها يكمن السبب الرئيس لتاخير الثورة .
ومع ذلك ، كما يقول اهلنا : كل تأخيرة فيها خيرة ، فالثورة آتية لاريب ، وآخر الادلة المؤامرات التى تحاك من قبل اصحاب المصلحة الاقليميين والدوليين للحفاظ على مايمكن من خلال انقلاب قصر أو أى حبكة اخرى ، مثلما حدث من حولنا ، وعندما يحدث مالابد من حدوثه ولو طال الزمن ، فسيكون من ضمن الهدايا لمستقبل بلادنا الكشف عن الصديق والعدو من الخارج .
والامر الاهم انه ، كلما طال العسر ، قفز من مركب الشعب من ظلوا بداخله نفاقا أو انتظارا لنهاية قريبة ولا تغير من توازن القوى داخل عناصر الثورة نفسها وبالتالى تكون سببا فى انتكاسة سريعة ، تسهل لهؤلاء المنافقين والمنتظرين الاستيلاء على مامات الناس لتحقيقه ، فمزيدا من الصبر آل القرشى !
[email][email protected][/email]