توقف بكرى بسيارته الفارهة على جانب الطريق ، بالقرب من محطة المواصلات العامه وهو شاب فى العقد الرابع من عمره ، شديد السمرة يرتدى جلبابا ابيض ، على رأسه طاقية افريقيه أنيقة ، تعلوعينية نظارة سميكة منذ طفولته نسبة لضعف بصره ، ممتلئ الجسم ، وقف بكرى فى انتظار صديقه حسين ، ذلك الشاب المرح ذو النكته الحاضره ، وكان مميزا بين اصدقائه بقصر قامته ، وكبر حجمه ، ولكنه انسان ودود دائم الابتسامه ، يتقبل مزاح كل الناس حول شكله بكل سرور وروح رياضيه ، يعمل حسين موظفا فى احدى المؤسسات القريبة من هذا المكان ، تواعد الاثنان ان يلتقيا لتلبيه دعوه زميل دراسة وصديق لهم قادما من من مكان عمله فى الخارج فى اجازة قصيرة ، وقد دعاهم للغداء معه فى منزله ، وكان الوقت بعد الظهر فى يوم شديد الحرارة ، أخرج بكرى هاتفه من جيبه ، واتصل بصديقه يخبره بانه فى انتظاره عند مدخل محطة المواصلات العامه ، على جانب الطريق ، ولا يريد التوغل فى الزحمة ، حتى لا يصعب عليه الخروج ، فرد عليه حسين بان أمامه بعض المهام المستعجلة ، وعليه الانتظار قليلا حتى يفرغ منها بسرعة وينزل اليه ، فقال له بكرى : حسنا خذ راحتك فالوقت مازال فيه متسع ، ترك بكرى محرك السياره يعمل لينعم بهواء مكيف السيارة البارد ، ولم يقفل زجاج سيارته المظلل بالكامل بل ترك ملمترات قليله حتى يتسنى له سماع الاصوات من حوله ، وكان بكرى يهوى ملاحظة تصرفات المارة من خلف الكواليس ، فأخذ يجول ببصره يراقب ، فهناك بائع الخضار يتحدث عن جودة بضاعته لاحد الزبائن ، الذى وقف أمامه مترددا فى الشراء ، بينما بائع الاكياس ، ذلك الصبى اليافع ، واقفا بالقرب من الزبون مترقبا ساعة الشراء ، ليعرض أكياسه الجميله على الزبون ، ليحمل بضاعته داخلها ، وتلك امراة عجوز تريد عبور الشارع ، وتتوسل لسائقى المركبات لكى يتوقفوا لها حتى تعبر ، ولكن لا احد يستجيب ، فصارت تتزمر وتكيل الشتائم ، حتى انبرى لها أحد الشباب ، وقام بمساعدتها على عبور الطريق ، ولسانها يلهج بالشكر والدعوات له ، وفى الجانب الاخر من الشارع تصطف محلات بيع المثلجات ، والمشروبات الباردة ، امامها اصناف من الناس ، قادهم الطقس الحار الى احتساء اكواب العصائر المثلجه ، لاطفاء لهيب امعائهم المتعطشه ، وأمام واحد من هذه المحلات ، تقف شابة على قدر عالى من الجمال ، برفقة شاب يحتسون أكواب العصير فى حديث ضاحك ، يوحى مظهرهم بانهم طلاب جامعيون ، وما شد انتباه بكرى هو ان ذلك الشاب ذو سحنة مختلفة تماما عن ملامح تلك الفتاة وبصورة ملفته للنظر ، أخذ بكرى يراقب فى دهشة واستنكار ، ما الذى يجبر مثل هذه البنت على مرافقه شاب يختلف عنها فى كل شئ ؟ لكن يبدو ان طمعها فى كرمه ، واحساسها بالزهو برفقته هو السبب ، لم يزيح بصره عنهما حتى فرغا من تناول العصير وانصرفا ، وفجاة شعر بكرى بحركة خفيفة طرات على سيارته من ناحية الخلف ، فالتفت منزعجا ! فاذا بقروى يرتكز على ظهر السيارة ، غير منتبه لنفسه ، نتيجة لانهماكه فى امر يحكيه عبر الهاتف مع طرف أخر بصوت بدا واضحا ومسموعا وهو يقول : يا اخى افهم كلامى قلت ليك أنا ما بقدر أجى الابعد اسبووووع ، ويبدو ان الطرف الاخر قد تزمر لهذ التاخير فاحتد معه فى الكلام فصاح : انا قلت ليك جاى الليلة نعم ، لكن الدكتور قال: (الحاجة) لازم تجى مقابلة بعد خمسة ايام ، هل يعقل ان ارجع واعود بيها تانى بهذه الحاله يااخى ؟ انا لازم اتاخر ، أنا عندى الحاجة دى فوق كل شى ، وما فى زول غيرى بقدر يرافقها ، انت لو ماعايز تعمل لى شغلانتى خليها ، أنا بشوف لى زول تانى على بال ما أجى ، وأغلق هاتفه بصورة غاضبة جدا ، وهو يسب ويلعن فى ظروفه التى اطرته للتعامل مع هؤلاء الجبناء ، وذهب بعيدا يبحث عن شخص أخر فى هاتفه يبدو أنه البديل ، وكان بكرى قد اندمج فى هذا المشهد ، وقد أبدى تعاطفا مع هذا المتحدث الذى كان يظن أن السيارة خالية ، وهناك عند مكان ماسحى الاحذيه تجلس فتاة حسناء خجوله امام احد ماسحي الاحذيه ، تنتظره ان يفرغ من مسح حذائها الانيق ، بينما هو يحاول مغازلتها بين الحين والاخر ، وهى تتظاهر بانشغالها بهاتفها الجميل فى حياء ، فى هذه الاثناء مرت من أمام السيارة سيدة كبيرة فى السن ، ومعها فتاة فى العشرينات ، تحمل رضيعا وصبيا يافعا بصحبة تلك المراة المرافقه لها ، يبدو أنها جدته ، وهو يبكى ويطلب كوب عصير ويلح فى طلبه ، وقد بدت علامات الحزن على والدته من ضيق ذات اليد ، ولكنها خضعت لرغبته اخيرا واتجهت به الى محل العصائر ، واشترت له كوب عصير بدأ أكبر من حجم يديه البريئتين ، فأخذ يتناول العصير فى نشوة وفرح ، أما والدته أخذت تحدث شخص فى الهاتف ربما يكون زوجها ، وأخذت تصف له مكان تواجدها ، وكالت عليه اللوم وكان ذلك واضحا من حركاتها ، وتعابير وجهها ، لانه تأخر عن ميعاده الذى من المفترض أن يقابلهم فيه ، وأخذت توصف مكانها قائلة : نحنا منتظرينك هنا امام محلات العصاير وصمتت قليلا منتبهة مع حديثه يبدوا انه يسال عن موقعهم بالتحديد ، ثم عاودت الحديث معه : اسم المحل ؟ والله ما عارفاهو لكن دقيقة ، أشوف ليك الاسم وتقدمت وهى تتفقد ما اذا كان هناك لافته واضحة ، فانحنى بكرى بصوره لا اراديه ، ينظر الى حيث تنظر تلك الفتاه ، وكانت اللافته التى تعلو المحل مكتوب عليها ( عصاير ود الجزيرة ) فقالت السيدة : المحل اسمو (عصاير ود الجزيرة) وقبل أن تكمل حديثها فرغت بطارية هاتفها ، فغضبت وراحت تضرب جبهتها وهى تقول : يا الله منك انتى ، هل هذا هو الوقت المناسب لكى تنتهى فيه ؟ فى هذه الاثناء كان صاحب محل العصاير منتبها معها ، فناداها وقدم لها هاتفه لتكمل حديثها ، فرفضت ، ولكن وسط الحاحه الشديد وحوجتها للتواصل فى هذا الوقت الحرج جعلها تقبل بذلك ، وأكملت حديثها وأعادت الهاتف لصاحبه بعد ان شكرته بحراره ، ووقفت تنتظر ذلك الشخص الذى هو فى الغالب ربما يكون زوجها ، أما صاحبنا بكرى أيضا صار يترقب معها فى لهفة ليرى ذلك الشخص ، وقد رسم فى مخيلته صورة له ، وذلك من خلال قراءته لمظهر تلك الفتاة ، والمراة التى معها وصغيرها ، وبينما هو كذلك ، لفت انتباهه ضجيج ابواق السيارات ، فنظر ليرى تكدسا وازدحاما غير طبيعي فى حركه مرور السيارات على الطريق وبالقرب منه ، وان هناك شجار على وشك ان ينشب بين شاب يقود عربه ملاكى واحد سائقى الحافلات العامه الذى يدعى ان من تسبب فى ذلك هو هذا الشاب المتهور، الذى لو لا ان تفاداه لكان وقع حادث اليم ، نسبه لتخطيه المخالف لحركه السير، وقيادته بصوره متهوره ، فخرج الشاب غاضبا من سيارته ، يدافع عن تصرفه الذى يراه تصرفا عاديا ، وهكذا عم الشجار وتعالت الاصوات ، حتى لاحظ شرطى المرور المتواجد بالموقع ، ان هناك امر ما ، فاسرع تسبقه صافرته المدويه ، ليرى ما فى الامر ، واخذ يحاول اعادة الحركه الى مسارها الطبيعى بصعوبه ، واحتوى الخلاف الذى نشب بين ذلك الشاب وسائق الحافله بشكل ودى كعادته فى احتواء مثل هذه المواقف ، ويبدو من تجاوب السائقين معه انه شخصيه محبوبه ، وشرطى متسامح وصديق للكل ، وقبيل انفراج ازمه المرور هذه ، التفت بكرى ناحيه تلك الشابه ، فوجدها قد رات ما كانت تنتظر ، وراحت تلوح بيدها نحو شخص غير مرئ للعامه وسط الزحام الا من زاويه نظرها هى ، لانها تعلم مكانه جيدا ، اخذ بكرى يجول ببصره فى الاتجاه الذى تنظر فيه الفتاة ولم يرى شئ ، و بعد ان دقق النظر واقترب الشخص المعنى ، ظهر شاب نحيف فاتح اللون ، اصلع الراس ، طويل القامه ، عليه ثياب غير منسقه وباليه ، يسرع نحو تلك الشابه ، مبتسما ابتسامة البسطاء ، متلهفا ليبرر تاخره عنها ، الا ان السيارات المتلاحقه اوقفته عند حافه الطريق ، فوقف ينتظر هدوء حركه السير ، وخلو الطريق ، ليعبر اليها وسط فرحه الصغير العارمه ، وبعد فراغ الشارع ، عبر مسرعا نحوهم ، فتلقاه الصبى الصغير فاتحا ذراعيه وهويردد فى براءة : ابوى ابوى كما بدا من حركه شفاهه ، واتجهوا جميعا الى وجهتهم مسرعين وبينهم حديث متبادل ، ربما يكون حول سبب تاخره واختفوا من انظار بكرى ، وهناك وعلى مسافة غير بعيده ، وقفت امراه برفقه زوجها الذى يحمل طفلهما ، عند بائع حقائب النساء الجميله ، فوقفت ضاحكه تتوسل الى زوجها ان يشترى لها حقيبه قد اعجبتها مع رفضه الشديد ، وكل ما اصر على رفضه زادت نوبه ضحكها ، وزادت فى الحاحها حتى انصاع زوجها غاضبا لرغبتها ، واشترى لها الحقيبه التى اعجبتها ، وسط سرور و فرحه طرات على وجهها الطفولى الناعم ، وحسره وندم على وجه زوجها على ما اخرج من جيبه من مال ، اخذ بكرى يحلل هذا الموقف من وجهة نظره وقال فى نفسه : لا بد ان هذه المراه لها سوابق مع زوجها فى شراء الاغراض ، ويبدو انها تعلم ببخله جيدا ، وانهما لم ياتيا للتسوق ، لولا حظه العاسر الذى قاده للمرور بجانب محل بيع الحقائب النسائيه ، وقد ضعفت هذه المسكينه اما رغبتها فى اقتناء حقيبه نسائيه جميله ، ومع علمها التام ببخل زوجها الشديد ، اخذت تتوسل اليه ضاحكه ، وحصلت على ما تريد ، فانفجر بكرى ضاحكا وهو يسترجع فى ذهنه منظر ذلك الزوج البخيل ، لانه يحب نوادر البخلاء كثيرا .
بدا الازدحام يشتد ، واخذ ركاب الحافلات يتزاحمون فى اقتناء مقعد بصعوبه بالغه ، وامام احدى هذه الحافلات ، تعالت صيحات فتاه من اثر سقوطها ارضا ، وسط التزاحم امام باب الحافله ، انه احد اللصوص حاول ان يسرق حقيبتها ولكنها كانت ممسكه بها بقوه ، بينما هو يحاول انتزاعها بسرعه وفشل فى محاولته ، مما اسقطها ارضا مفزوعه ، ولكنها تحمد الله على سلامتها ، ونجاتها من محاوله سرقه ، كانت ستكلفها الكثير ، اما اللص لم يعرف ، وتوارى بسرعه فائقه ، وفلت من الامساك به ، وفجاة التفت بكرى على قرع باب سيارته ، انه صديقه حسين ، يطلب منه فتح الباب على عجل معتذرا عن التاخير ، وانطلقا الى زميلهم .
عبد الحليم يوسف
[email protected]
هذه قصة قصيرة جميلة يا أستاذ حليم، فيها حركة وفيها ضجة وموضوعات شتى، ديالوج ومونولوج أحداث متداخلة ومتشابكة ،، باختصار قصة جميلة جدا أرشحها يجماعة الغيلم السوداني أو سودان فيلم فاكتوري للشغل عليها بسيناريو محكم لاخراجها في شكل فيلم قصير سيحقق نجاحاً باهراً ،، شكراً لك على إشراكنا هذه القطعة الأدبية الرائعة.
شكرا استاذ حسن الجزولى على التفاعل
التعليقات مغلقة.