وردى …. كل الأرض منفى

    0
    1933

    … اتكأت نخلة على اختها فى جزيرة صواردة قبل ساعة من منتصف ليلة السبت وقالت بوجع طاغى وهى تضع يدها أسفل قلبها :ـ أشعر( بانقباض )ولاادرى سببه ، ردت اختها بصوت خفيض وانا أيضا ،، كان (قادوسا ) فى الساقية التى تسقيهما ينكسر فجأة وفى ذات لحظة التشاكى تلك ، وطائر (البقر الأبيض اللون الطويل الساقين ) يفلت منقاره من فم صغيره الذى كان يودع فى حلقه حصاد حبات الظهيرة ، وام من ذوات الثدى تفلت ضرعها بفزع من فم رضيعها وتشرع اذنيها امام وجهها وتتلفت فى الفضاء الدامس وخطوط ارتعاشية تعبث بهدوء قلبها بصخب ، ومنديل أبيض يفلت من مشجبه ويعود الى الأرض متسخا ، وسحب بيضاء تقطع ونستها فجاة وترمى بصرها نحو الخرطوم (والدنيا آخر الشتاء )، كان مغزل الحرير يفلت ولأول مرة ويشك اصبع فتاة باذخة الحسن وتختلط بين أيديها كل رؤوس الخيوط والخطوط وشباك نافذتها ينغلق فجاة وكانه لاينتظر احدا … ومياه النيل تجمح فجاة كمهر ينسحب من السباق ويرفع اقدامه فى الهواء باضطراب والنيلان الازرق والأبيض يتقهقران الى الوراء دون أن يشك الناظر اليهما بانه قد تعاطى شيئا ! كان وردى يلملم اطرافه ويرسل انفاسه الى الرفيق الاعلى واسماعيل ود حد الزين يمد يده المعروقة بفعل الشوق من فوق سموات الحب السابعة ويحتضن وردى بعد كل هذا الغياب وكان صلاح احمد ابراهيم يلوح باصبعه باشارة الظافر للرائع الحلنقى و قد أشرف على آخر لمسات جلسة الانس التى تململ مقعدها الخالى فى انتظار فارس السمر الأنيق … كانت السماء تستبطء الأرض وكانت الأرض تتمهل السماء واحباء وردى هنا وهناك يتجاذبونه بين أيديهم فى الحاح ممراح (أن أبقى معنا ) وكانت الدموع هى القاسم المشترك الأعظم فالارض تودعه بمدامع اللوعة والسماء تحتضنه بمدامع (الرجعة ) وان لم يكن وردى سماويا ومن هناك فمن أين يكون ؟ والدنيا تمد يدها فى اعياء وهى تخور الى الأرض والوطن وفى مرات نادرة يقرفص فى حضرة النعش المهيب ويستلف مقطع الراحل وردى (فى حضرة جلالك يطيب الجلوس ) ولكن متى كانت تطيب جلسات الموت والحنوط والكفن الأبيض والعيون الذاهلات والادمع اللامعة ؟ والمتنبئ شاعر العرب يدخل غرفة الانعاش التى يتمدد فيها الجسد المنهك وعلى طرف المنديل الموضوع بعناية قرب فراش الرجل يكتب ألم أقل لكم من قبل :ـ
    اذا كانت النفوس كبارا …. تعبت فى مرادها الاجسام ؟
    وأطباء وردى يهزون رأسهم (ان نعم ) ويغطون الجسد الذابل والمنهك ، ووردى لم يكن مغنيا يرفع عقيرته امام جوقة من العازفين ويجرى على لسانه مجرد مفردات منظومة تتحرك على أثرها اعطاف الآخرين … الرجل كان صاحب مشروع كما لكل الناس مشاريع وأهداف ورسالة ، ووردى لايتميز فقط بانه كان صاحب مشروع ولكن تميزه يأتى فى اطار نضوج واكتمال مشروعه فى بلد فشلت فيها كثير من مشاريع الفكر والسياسة والثقافة والاجتماع .. ياتى وردى فى مركز الخمس الاوائل لأصحاب المشاريع المكتملة والناضجة والمجمع عليها والمجربة بتكرار كثيف وحازت على ثقة علامات النجاح الكاملة … نعم كثير من النخبويين السودانيين ستقف أقلام التقييم مترددة وهى تصحح مشاريعهم المختلفة وهم على بضع خطوات من القبر ، هذا ليس على مستوى الأفراد فقط ولكن على مستوى المجموعات والجماعات والكيانات والاحزاب ، على مستوى الجغرافيا والتاريخ والثقافة والعلوم والاجتماع ، فاذا ماعتبرنا أن الشعوب فى سباق أولمبى ممتد ومستمر فان وردى كان يضمن للسودان (ميداليته الذهبية فى مجاله باستمرار وبثقة وبانفراد خطوات عن منافسيه !! اى والله فوردى وحده كان يكسر حائط التبرير المقام من القش والجالوص كلما تحسسنا انحسار انشار ثقافتنا الغنائية بعوامل صعوبة المفردات العامية السودانية وغرابة السلم اللحنى السودانى كان وردى وحده يقيم شعوب الدنيا الفصيحة والراطنة على مقاطع (يابلدى ياحبوب ) والخواجة يفرقع أصابعة ويهتز ويصفر دون أن يصرخ مستغربا ()؟ نعم احبتى وردى كان واحدة من حالات النجاح الشحيحة التى تقف وحدها تدافع كلما قذف الآخرون فى ثيابنا تهم (البرود الوطنى ) والكسل والدعة وقلة الطموح وشح الحماسة فى التماس النجاح الشخصى والعام ، كان وردى هو الصفحة البيضاء التى نقدمها فى احيان كثيرة لنبرء بها جوازات سفرنا الخضراء المغبرة بكثير من شوائب السياسة والاقتتال الاعمى والانتطاح البهائمى المدفوع بالغرائز البدائية الاولى ، كان وردى هو رأس الخبز الناضج والمطهى باتقان والمشبع حد الاكتفاء دون ان تكركر بطن الذين يتناولونه بكل شره واقبال
    وعبقرية وردى الغنائية هى هذه القدرة على ابراز وتمييز دور المؤدى ليكون الأساسى والسابق لدور المؤلف والملحن والموسيقى وحتى المتلقى .. فوردى يتحكم فى كل هؤلاء بتأثير ابداعى شخصى عالى فهو يغنى الدارجة ليست فى مستوياتها العادية والمعتادة بل يؤديها فى اعقد درجاتها البلاغية وخصوصيتها الضاربة فى المحلية فيغامر بجراة ويخرجها الى الفضاء الثقافى العام ويثبتها بقوة فمن غيره يخرج هذا النص الى أقاصى دارفور وكردفان وكسلا وهويغنى بمفردات موغلة فى المحليه (ياعجو المحس التقيل فدع العراجين … انت مابدوكى لى زولا مسيكين ) والناس تطرب وتفهم وتقيم فى أرضها الثقافية نخلة محملة بالسبيط والعراجين المثنية .. ووردى بعبقرية ادائية فذة يكسو حتى المفردات (العارية ) بهيبة ادائية صارمة فلايبدو عريها لاحد ولايتحسس أى أب أن يتمايل مع صباياه مع وردى (نهدك المارضع جنى ) ووردى بادائها الوقوروالصارم والمتغمص للمعنى يصرف ذهن المتلقى لدلالة المفردة لا سطحية جرسها ، ووردى يغنى مووايل الوله الصوفى فتقبلها صبايا الغناء وتفسح لها مجالا قربها فيتحول التجانى سعيد الى شاعر غنائى وافر الحظ
    عزيزى وردى عفوا فاننا لم نستعد لهذا اليوم جيدا وكنا نمنى النفس الأمانى ان يبقيك الله بيننا قليلا تعوضنا مرارة الفقد فى مناحى اخرى شاخصة وباهظة ولكن فليهنأ بك محبوك فوق سموات العلى وهانحن نضع ثيابنا بين شفتينا ونرمق مقابر فاروق ونشير بكفنا فى يأس
    ( من شاء بعدك فليمت …. فعليك كنت أحاذر )

    حسن اسماعيل
    [email][email protected][/email]