كاودا مدينة مشدودة بين حبلين

0
7
كاودا
كاودا

حين كُتبت الحياة لأطفال كاودا كُتبت ناقصة.. حُرموا من ممارسة أبسط هواياتهم: “كرة القدم”

الخرطوم: مصعب محمد علي

أكثر وجوه الحرب الدائرة في جبال النوبة قماءةً، أنها حرمت كل الأطفال، بلا استثناء، من التمتُّع بحياتهم الطبيعية، إذ يتمنى الطفل “كومي” أن يمسك بقلم الرصاص بدلاً من رصاص الذخيرة المقصوف في الطرقات، جراء هجوم النظام البائد على مدينة كاودا والمنطقة كلها. لم يكن للطفل كومي وأقرانه سبيل سوى الاختباء الغريزي خلف الصخور، حين يبدأ القصف بطائرات الانتنوف والساخوي روسية الصنع.

كاودا
كاودا

فحين كُتبت لهم الحياة كُتبت ناقصة، حُرموا من ممارسة هواياتهم البسيطة؛ فكرة القدم في كاودا ما زالت تُصنع من أكياس النايلون وقطع القماش الممزقة، وتُربط بحبال لتؤكد شكلها المستدير، لكن لن يتمكن أمهرهم من دحرجتها إلى مسافات طويلة، ومع ذلك هي عُرضة للتمزق عند أقل احتكاك، وقد يقضون يوماً بأكمله في صناعتها، أمّا التمتع بالركض خلفها وتمريرها في ما بينهم، فذلك لا يتجاوز الدقائق المعدودة، حيث تقطعه أصوات الطائرات المهاجمة.
ورغم الأوضاع غير الآمنة في منطقة كاودا، إلا أنها لم تمارس كرة القدم، ولا تدانيها في الرواج إلا رياضة المصارعة. وتجرى في شهر مارس من كل عام بطولة (الشهيد يوسف كوة)، لتتحول لاحقاً إلى اسم الشهداء جميعاً، وتشارك فيه فرق (ناينتي ناين)، الفريق الأعرق في المنطقة، إلى جانب فريق (كينج ستون، وأم دبالو، والشباب، وكرمبه، وسي إن سي آي)، وفرق أخرى من منطقة هيبان.
وتشهد المنطقة أيضاً دوري المقاطعات، مثل مقاطعة دلامي، وتوبو والبرام، ومقاطعات المنطقة الغربية.
وشهد العام الماضي قيام دوري الطائرة للبنات لكنه لم يستأنف هذا العام.

وتهتم كاودا برياضة المصارعة، حيث تعقد لها مهرجانات سنوية بميدان الحرية، بحسب الأسبار والأعياد، وتفوق كرة القدم من حيث الجماهيرية.
وفقاً لشهادات الباحثة، ماجدة ميرغني، التي زارت كاودا، فإنّ النساء في المدينة يرتدين مسابح الرصاص بدلاً من الذهب والفضة. وقالت ماجدة: “شعرت بخجل حين رأيت النساء بتلك الحُلي (مسابح الرصاص)، حين كنت أتزين بسلسة من الذهب.. خجلت، فسرعان ما خلعتها”. وتضيف ماجدة: “قابلت نساء أكثر وعياً وبحثاً عن حقوقهن، في حياة أكثر ازدهاراً واطمئناناً”.

وتقول تيسير فرج الله إنّ النساء في كاودا تحمّلن عبء الحياة كلها، فهن إلى جانب الرعاية والعناية بالأطفال، مشغولات ببث الاطمئنان في النفوس التي روعتها الحرب، وترى أن الحرب علّمت النساء الجسارة والتضحية.

لأوقات كثيرة ارتبطت مدينة كاودا بكل ما له علاقة بالحرب والدمار، فهل آن لها أن تغيّر صورتها إلى الأبد، ربما برغبة السكان الذين عانوا كثيراً ولسنوات طويلة، في الحصول على أدنى درجات الأمان. وفي المدينة التي تضم آلاف السكان بات السؤال المتكرر لدى الناس يتعلق بالسلام، وأصبحوا أكثر تركيزاً مع مجريات التفاوض التي تدور في جوبا، عاصمة جنوب السودان، ودون ان تنتهي الى شئ.

يقول قيادي بارز بالحركة الشعبية، جناح الحلو، تحدث لـ(القدس),إن التوصل إلى سلام شامل وعادل هو أقصى أمنيات شعب جبال النوبة، الذي أنهكته الحرب. ويشير القيادي، الذي فضل حجب اسمه، إلى أن الحياة الآن أصبحت أكثر هدوءاً في المدينة، حيث اختفى صوت الرصاص، لكن المعاناة ظلت كما هي؛ فالموارد التي تمكن شعب جبال النوبة من الاستمرار في العيش تكاد تكون معدومة. ويضيف: “السكان في كاودا ظلوا يسألون بعد كل جولة، عن أخبار التفاوض وعن إمكانية التوصل إلى السلام”، ويقول إن الجميع في كاودا على دراية بأن الأزمات في المدينة ليست بمعزل عن أزمات السودان، لذلك ظل الجميع يطالب بحلول جذرية تنهي كل أسباب الصراع، وطي صفحات الحرب إلى الأبد.

كاودا
كاودا

ويتابع القيادي بالحركة الشعبية: “عندما نرى ونلاحظ رغبة وإقبال أطفال كاودا على التعلُّم، برغم المشقة والصعوبات، نشعر بحسرة؛ لأن هؤلاء الأطفال حُرموا من حقهم في التطلُّع إلى المستقبل”. ويضيف أن ما يقارب 250 مدرسة دُمرت بالكامل، ولم يبقَ منها سوى الرغبة والأمل، وأن كاودا تحتاج وقتاً طويلاً لتعود إليها الحياة، فهي معلقة بين حبلين؛ حبل يشدها نحو الخرطوم، وآخر قد يفصلها، في حال لم تتحقق رغبة القائمين الآن على أمر حكمها.
وفي وقت سابق، قال الناطق الرسمي لمجلس السيادة محمد الفكي، إن خطوط التواصل سالكة مع الحلو، وإن كادوا ستكون مثل الخرطوم من حيث القرب والوصول إليها.

وتُحظى مدينة كاودا بسوق أسبوعي للسلع الاستهلاكية، ينعقد كل أربعاء، لكنه يفتقر إلى أبسط مقومات الأسواق، وتسود فيه التجارة البكماء بشكل رائج، حيث يمكن للراغب أن يستبدل أبقاراً ببضائع أقل سعراً؛ لأن البضائع غير متاحة بشكل كافٍ، كما أن العملة المتداولة تخص السودان الجنوبي، فيما قد يفقد المريض حياته في سبيل الوصول إلى مستشفى المدينة، حيث توجد حالات مرضية كثيرة انتهت بأصحابها إلى الموت قبل بلوغ المستشفى؛ فالطرق الوعرة تحد من سير المركبات القليلة، لذلك فإنّ أغلب المرضى يختارون السير على الأقدام.
الميدان