رحل من ملأ الدنيا بالمعرفة وشغل الناس بالسياسة
من فينا يستطيع أن يكتب عن الراحل الدكتور منصور خالد !
غير دكتور منصور نفسه، بما كتبه في سيرته الذاتية التى سماها
(شذرات من وهوامش علي سيرة ذاتية ) وقسمها الي أجزاء أربعة علي النحو التالي:
الجزء الأول : سنوات التكوين وبداية الحياة العامة
الجزء الثاني : جيل البطولات و جيل التضحيات
أين وكيف تنكبوا الطريق
الجزء الثالث : كيف قاد صراع الإخوة الأعداء الي تمزق الوطن
الجزء الرابع : الدبلوماسية السودانية في نصف قرن
هذه الشذرات ليست هي مجرد سيرة ذاتية للراحل منصور ، بقدر ما هي سيرة ذاتية للوطن خلال ستين عاما من عمره . قسمها بمهارة وحذق علي الأجزاء الأربعة . حيث جعل من الجزء الأول سيرة ذاتية لمدينة أم درمان ، المدينة الوطن كما يحلو لي دائما ان أسميها . ثم خصص الجزء الثاني لجيل الحركة الوطنية ،وسبر اغواره سبرا عميقا ، فضلا عن أنها أيضا سيرة ذاتية لبعض رموز الحركة الوطنية من الذين لم يتيسر لهم أن يكتبوا سيرتهم الذاتية ! ثم أفرد مساحة الجزء الثالث برمته لصراع الأخوة الأعداء كما سماه ،الذي أدي إلي تمزق الوطن ، وفيه تحليل شديد الإحاطة شديد الرصانة، بشجاعة دكتور منصور وصرامته المعهودة ، عندما يجاهر برأي يكون مقتنعا به ، دون إكتراث لردود الفعل أيا كانت .
ثم جاء علي الجزء الرابع الذي خص به الدبلوماسية السودانية في نصف قرن . من شدة ما إشتمل هذا الجزء علي معلومات ومعارف قيمة بل و نادرة، يصعب علي القاريء العادي أن يتحصل عليها من ذات المصادر التى تحصل عليها المؤلف ، عن مفاهيم وفلسفة ونظريات وعقائد الدبلوماسية في العالم ، تصلح أن تكون جزءا من المقررات الدراسية بعد الثورة لطلاب المرحلة الثانوية ،وايضا لمساقات العلوم السياسية في الجامعات .
هذا بإيجاز موجز عن” الشذرات ” السيرة الذاتية للراحل دكتور منصور “كمشهيات ” لمن أراد أن يلتهم قراءة الطبق الرئيس !
ما كنت أعرف منصورا إلا بمقدار ما عرفه الناس في السودان،
كرجل ملأ الدنيا بالمعرفة وشغل الناس بالسياسة ،بل كان مثيرا للجدل في الكثير من المواقف مع مخالفيه في الرأي وما اكثرهم !
حتى جاء عليه زمان كتب مقالات شهيرة في صحيفة الأيام تحت عنوان ( حوار مع الصفوة) كانت عبارة عن حفر عميق في الجذور بغرض رسم معالم طريق التغيير نحو الحداثة والتنوير
ثم ما لبث أن وضعها بين دفتي كتاب بنفس العنوان .
منذ ذلك الحين ، ما أصدر دكتور منصور خالد من كتاب بالعربية أو الإنجليزية إلا وقراته وسجلت ملاحظاتي علي هوامش صفحاته ، حتي تصدرت كتبه واجهة مكتبتي علي صغرها وتواضعها بجوار كتب الصديق المؤرخ المعروف دكتور فيصل عبد الرحمن علي طه الذي ما كتب كتابا ،وإلا اهداني نسخة منه ممهورة بخط يده ،عندما كنا نعيش معا في مرفأ غربتنا في “أبوظبي”
أخشى أن تطول الكتابة فيضجر البعض الذي لايطيق قراءة الموضوعات المطولة مرة واحدة ،فأضطررت الي تجزئة المقال الي أجزاء ،علي أمل أن أكمل باقي الأجزاء في مواقيتها وما يزال الحزن طازجا علي غروب الرجل وهو غروب للمعرفة والإستنارة والثقافة الموسوعية والشجاعة في الإجهار بالرأي والصرامة في الدفاع عنه وفوق هذا وذاك الكتابة ” الماخمج “.
رحل من ملأ الدنيا معرفة وشغل الناس بالسياسة (2)
عندما عين الراحل مساعدا لرئيس الجمهورية ،شرع في إعادة تنظيم القصر ليجعل منه بيتا ابيض علي غرار البيت الأبيض في واشنطن ! فتم إنتداب عددا من التكنوقراط من مختلف الوزارات والهيئات الي رئاسة الجمهورية، أذكر من تلك الجهات علي سبيل المثال لا الحصر ، وزارة الخارجية ومنها أذكر دكتور نور الدين ساتي و أبوزيد الحسن ، من وزارة التخطيط عبد الحميد داؤود ، من التربية والتعليم الأستاذة ليلي سليمان ، من الخدمة العامة “ديوان شؤون الخدمة ” الراحل عصمت مصطفي عبد الحليم أحد انبه موظفي ديوان شؤون الخدمة والعبد لله ، ذهب المرحوم عصمت مديرا للمكتب التنفيذي ، بينما ذهبت أنا مديرا لشؤون الموظفين في القصر علي غرار “كبير موظفي البيت الأبيض ” وشتان بين البيت الأبيض في واشنطن والبيت “الأغبش ” في الخرطوم ! بما ان طبيعة العمل في ديوان شؤون الخدمة تجعل منه جهازا مستقلا ،يلعب دوره بحياد تام في وضع سياسات وقوانين وتشريعات الخدمة العامة ومراقبة تنفيذها علي الواقع عبر ممثليه في الوزارات والدوائر الحكومية .
إلا أنه في زمن الإنقاذ للأسف تحول بقدرة دولة التمكين من “ديوان ” كان له “شنة ورنة ” الي” تكل ” والتكل في قاموس لغة أهلنا في البلد هو المطبخ ولعها مفردة نوبية والله أعلم !
كان القصر يموج بالحركة الدؤوبة ، فسرعان ما إمتدت المساحات الخضراء وغمرت الساحات والميادين داخل القصر بإزهار زاهية في ألوانها ولها شذي فواح ! والزم كل الموظفين بزي موحد ومنحوا علاوة بدل لبس لتغطية “البدل” و “السفاري”
رغم اني كنت بعيدا عن مطبخ القرارات السياسية بحكم طبيعة عملي ولكن كان يمر علي الجزء الخاص بحقوق العاملين وإستحقاقاهم اللازمة- هذا ما سأفرد له مقالا في يوم من الأيام وأغطي فيه جزءا من ما وقع في يدي من فساد النظام المايوي في القصر ! وقد إستفدنا الكثير من أسلوب دكتور منصور في العمل من الدقة والإنضباط وطريقته المدهشة في إدارة الإجتماعات، ثم متابعته اللصيقة والصارمة في إنفاذ القرارات علي الارض وملاحقته للفريق الذي يعمل معهو كثيرا ما كان يبلغ بهم الرهق أشده !
في ذات ضحي تم إستدعائي فجأة بواسطة الإدارة العليا في ديوان شؤون الخدمة لأن موعد بعثتي قد إزف ،وعلي أن إختار بين البقاء في القصر أو السفر !
فقلت لهم من يرفض السفر الي المدينة التى كتب عنها عميد الادب العربي دكتور طه حسين كتاب سيرته الذاتية ( الأيام )و سهيل إدريس ( الحي اللاتيني ) وتوفيق الحكيم ( زهرة العمر ) و رفاعة رافع الطهطاوي ( تخليص الإبريز في تخليص باريرز)
مضت سنوات عديدة لم التق فيها منصورا ، في ذات يوم اتصل علي الصديق العزيز الراحل إبراهيم عبد الله ليقول لي غدا لا ترتبط اتصل دكتور منصور يود مقابلتك انت “راس ” قالها هكذا قلت له وماذا عن أعضاء اللجنة خاصة الأخ رئيس اللجنة المهندس علي أبوزيد ! كنت انا حينها الأمين العام فقالها بأكثر حزم هذه المرة قلت لك: انت راس الساعة السابعة مساء في فندق مريديان – أبوظبي
التقيت الرجل في كامل أناقته المعهودة بعد طول غياب إستعرضنا معا أحوال ناس القصر وأين هم من بلاد الشتات !
ثم إخرج ورقة وقلما وقال :اريدك ان تحدثني عن حاضر ومستقبل ( الحزب الإتحادي الديمقراطي ) تحت قيادته الحالية ؟ وقد نصحني الكثيرون أن أتوجه بهذا السؤال لك شخصيا لما لديك من صراحة وشجاعة . فقلت له ولكن هذا سؤال ضخم وشائك بل و معقد ! ويحتاج الي وقت وأراك علي عجل ؟ إستغرق اللقاء زهاء الساعتين وبدي سعيدا بما ظفر ثم مضى .
اخيرا أثناء إجازتي في العام 2019 قيضت لي الظروف أن أمضى معه وقتا طيبا في بيته و كنت قد كتبت عن ذلك اللقاء في حينه . رحم الله منصورا واحسن الله عزاء الوطن والشعب السوداني وأسرته واهله في ام درمان وأصدقائه وطلابه وقبيلة الدبلوماسيين حيث ما كانوا أخص منهم بالعزاء الأصدقاء دكتور نور الدين ساتي ودكتور الفاتح إبراهيم حمد والسفير عوض محمد الحسن والسفير أبوزيد الحسن وفخر الدين كرار والباحث دكتور احمد العوض سكينجة والفنان المبدع عصام عبد الحفيظ الذي قام بتصميم الشذرات
تغمده الله بواسع الرحمة الهم الوطن واهله وأسرته وأصدقائه وطلابه وقراءه جميل الصبر وحسن العزاء
الجزء التالي سأتحدث فيه عن كيف ومتي التقيت الراحل منصورا ؟ فلاتذهبوا بعيدا كما يقول مذيعو القنوات الفضائية !
جعفر عبد المطلب
السلام عليك يا جعفر….. ورمضان كريم….
استغرق مقالك كلي!! عندما تكتب عن عملاق السياسة والأدب والديناميكية في العمل العام الوطني والعالمي منصور خالد، فأنت تكتب عن أمة…. وتضيف الى تاريخها الذي شوه معظم الأحيان. ما يغري بانتظار بقية (الشذرات) هو صدق أعرفه في شخصك… وأمانة في سردك بحيث تسمي الأشياء بأسمائها دون مواربة… ثم أهمية كونك شاهد عيان، جلس الى الرجل وعاين انفعالاته ولغة جسده، مما يضيف الى الكتابة عنه بعدا هاما لا يجده المطالع في كتابات من قرأوا له فحسب….. فتعال نحن منتظرون.
التعليقات مغلقة.