تفاعلات..!!

    0
    98

    في تفاعلات متباينة على مقالي الذي كتبته الأسبوع الماضي عن الرقابة على الإبداع، وتداعياتها التي أهمها: حرمان المتلقي من قراءات يحبها ويسعى إليها، خاصة في معارض الكتب، وفرض نوع من الكتابة غير المرغوب فيها على الناس، أو لنقل فرض قراءة غير محبوبة، ولكن تحتمها الظروف، إذا اعتبرنا القراءة عند بعض الناس إدمانا لا بد من الانصياع لطقوسه. في ذلك الموضوع، تلقيت بعض الردود، مما اعتبرته كسبا كبيرا للمقال، أنه لم يعبر بلا تفاعل.

    الردود كانت من أشخاص عدة، بعضهم يؤيد وجود الرقابة في حياتنا عامة بشكل أو بآخر، وبعضهم يظنها عيبا كبيرا وتدخلا غير مبرر بين القارئ واختياره، في ما يخص الإبداع.

    يقول القارئ حسن من سوريا، إن الرقابة ليست في مجملها فعلا شائنا، وتوجد رقابة جيدة ومطلوبة، تلك التي تقي أبناءنا من الانسياق خلف الثقافة الضحلة، التي تبث لهم في الكتب، وأجهزة التلفزيون، والسينما، وبوجودها نستطيع أن نطمئن على الجيل الجديد، ماذا يقرأ؟ وماذا يشاهد؟

    وتقول نسرين ط.ع، إنها لا تحب الرقابة أبدا، ومنذ كانت طفلة صغيرة، تتذمر من مجرد إحساسها بأن أمها تراقبها وتحاصرها بكثير من الأوامر، في ما يختص بالذي يجب فعله والذي يجب عدم فعله، وحين كبرت تتذمر الآن من كلمة رقيب، وتعتبرها تلصصا علنيا، يتخذ طابع التربية، هي مقتنعة بأن التربية الصحيحة مسألة نسبية، مثلها مثل أي شيء آخر، وما يعتبر سليما عند البعض، يعتبر غير سليم عند البعض الآخر، والعكس صحيح في ما يعتبر سيئا هنا، وجيدا هناك.

    أيضا كتب لي معاوية من السودان، وهو كاتب قصصي ومسرحي، وشاعر كما يقول، كتب: إنه يعتقد جازما أن المبدع الحقيقي يمكنه بقليل من الصبر والتأني، والتدريب أيضا، أن يغدو رقيبا لكتابته الخاصة، وأفعاله الأخرى في المجتمع، ولا داعي أصلا لإنشاء أجهزة رقابية تفلتر الإبداع، حسب مزاجها ومستواها الفكري، هناك أشياء واضحة، ومخزية في ما يخص القيم المجتمعية، ترافق الكتابة أحيانا، وفي الغالب لن يتطرق المبدع صاحب الرقابة الذاتية لها، وهكذا نحصل على أدب جيد، يمكن أن يستمتع به الناس بدلا من ذلك المطموس بالأسود، في كثير من الصفحات، والذي يتم وضع النقاب عليه، وهكذا.

    بالطبع تلك آراء نابعة عن قناعات لا بد من احترامها، ومن الممكن أن تكون نابعة من تجارب خاصة، فالرجل الذي يتحدث عن الجيل الجديد والتربية، وفرض صرامة في مراقبة الأبناء ينسى أن العالم لم يعد تلك الدنيا القديمة البسيطة، التي كان يتمتع فيها كل مكان باستقلاليته وخصوصيته، فالريح التي تهب هنا لن تهب هناك، والجريمة التي ترتكب هناك لن تصل أصداؤها لأبعد من هناك. والغبار الذي يذر على عيون هنا، قطعا لن يذر على عيون هناك، ذلك الزمان الذي كان يعتمد على ما تنقله الإذاعة من بث غالبا ما يفتقر للمعلومات الكافية عن أي حدث، أو تلفزيون محلي لا تتجاوز أخباره ما يحيط بمبنى التلفزيون أو أبعد قليلا. كلنا يذكر كيف كانت المظاهرات المناوئة لزيادة أسعار السلع، أو تعريفة المواصلات، تحدث في المدارس والجامعات والشوارع، ويموت طلاب ومدنيون من أثر البطش، ولا أحد يعرف من بطش ومن زرع الرعب ومن قمع ومن يستحق إدانته، بعكس اليوم حين تنقل كاميرا صغيرة مثبتة في هاتف جوال من سامسونج أو آي فون، وقائع دقيقة جدا تحدث في غرف النوم وغرف التعذيب، وتدين كل من يستحق الإدانة.

    هنا لا سيطرة سهلة على الأبناء الذين سيلتقون بالإيروتيكا حتما، يلتقون بالصور الممنوعة، والأخبار والتقارير غير المحتشمة، وسيتعلمون كيف يبتسمون بإغواء، وينشئون قنوات في يوتيوب، ويجلبون إلى شاشاتهم ما لا يمكن تخيله من مواضيع، من أي مكان قد يخطر وقد لا يخطر على أذهان الآباء. فالكومبيوتر والهاتف الجوال وغيرها، من وسائل الولوج إلى الدنيا، كفيلة بالتقريب والتقريب الخطر للمسافات.

    بالنسبة لمن تعتبر التربية عينا متلصصة على الخصوصيات، نستطيع أن نعترف بقناعاتها، ومثلها كثيرون ربما تنقلب سحناتهم بمجرد ذكر الرقابة. فالرقابة هنا في الغالب مرتبطة بذكريات أليمة، وسوء حظوظ كان يمكن أن تكون أفضل لولاها، وأذكر في فترة بداية الشباب، أننا كنا مراقبين بدقة في البيت وخارج البيت وأي تصرف غير عادي يجر كثيرا من المساءلة، وفي مرة كنت في طريقي إلى المدرسة، صادفت بنت الجيران ذاهبة في الطريق ذاته، وصحبتها حتى مدرستها ثم عرجت على مدرستي، وكان أن لمحتني رقابة ما، وأوصلت مشهد المشي بانتشاء في الشارع مع فتاة جميلة، إلى البيت وتمت مساءلتي بدقة.

    أعود للكاتب القصصي الذي ربما يكون أكثر المتأثرين بمسألة الرقابة، لولا أنه يملك رقابته الخاصة كما يقول، تلك التي تمنحه الأشياء الممكنة ليكتبها وتمنع عنه غير الممكنة أو غير المستحبة، ليبعدها عن كتابته، أظنني تحدثت عن تلك المسألة، مسألة الرقيب الداخلي الموجود في حبر كل مبدع، يرشده إلى ما يظنه صوابا، لكن أيضا يظل الحبر مختلفا عند كل فرد، وتظل المسألة بكاملها نسبية جدا، ولن نستطيع اعتبارها أداة فعالة في فعل الصواب من عدمه.

    في النهاية تبقى الرقابة على المواد الإبداعية، مفعلة شئنا أم أبينا، مفعلة بنعومة في مكان ما، وبضراوة كبيرة في مكان آخر، وتظل محل جدل كلما أطل علينا كاتب، أدار لها ظهره ونشر ما رآه إبداعا، أو كلما بدأ موسم معارض الكتب العربية.

    القدس العربي