مِنْ دَفاتِرِ عَاشِقَةٍ

    0
    1310

    عادل سيد أحمد

    من أزاميل الزمن- (مجموعة قصصية):
    في الرابعة عشر من عمري، أحببتُ طارقاً، ود جيرانَّا وذبت فيه وجداً و تحناناً، وأحسَّ، هو، بمشاعري الجيّاشة نحوه، أوّلاً، ثم سرعان ما بادلني إيّاها، كان حبّاً عذريّا طاهراً، و كنتُ، تماهياً مع تلك المشاعر، أشجعه على خصومه و انتشي لفوزه في ألعابِ الطفولةِ و لهوِها البريء، و كنا نتلصص الإنفراد أو شبه الإنفراد حينما كنتُ أذهبُ للمذاكرة مع أخته (سناء)، حيث يتاح له حينها إبراز عضلاته الأكاديميّة و تفوقه المدرسي…و كان حنئذٍ يجهز حلويات و فطائر يشتريها لنا من مُدخرات مصروفه اليومِي…
    و كان كلَّ الغزل الذي نتبادله، يتبدى في الأهتمام المشترك بكلامنا و حكاوينا، و الضَّحِك من الأعماقِ أو ما دونها على النكات التي كنّا نطلقها أثناء لقاءتنا النادرة تلك.
    و رحلت أسرةُ طارقٍ و سناءٍ فور إنتهاء امتحاناتِ نهاية العام، و لم أسمع لا أنا و لا أهلي و الجيران عنهما أو عن أسرتهما شيئاً بعد ذلك، رغم احتفاظي بالذكريات العزيزة عن و من أيّامهم و لياليهم العامرة بالسمرِ الطرُوب…
    و لوقتٍ طويل تلى تلك المرحلة كنت أظن أن ما جرى بيني و طارق هو الحب، و لم يخطُر ببالي و أنا أتقدم نحو الثامنة عشر من العمر، أن هنالك أشكالاً مختلفة و تعابيراً نشاز أحياناً كثيرة، رغم بلاغتها، للعلاقة بين الولد و البنت كما كُنا أنا و طارق، أو الرَّجُل و المرأة كما سنكون أنا و عز الدين، أستاذ الأحياء، بالمرحلة الثانويَّة، الذي كان يُدرسنا بصفته مُتعاون مع المدرسة…
    و أحببتُ عزَالدينِ، و أحبني هو إلى درجة الوله، أو كما قال… و لكن: جرت الرياحُ بيننا، أنا و هو، بغير ما يشتهِي السَفِنُ…
    عندما بدأت تتكوَّن مشاعرُ حُبي له، بدأت غير مُباشرة و بعيداً عنه، و تبدّت أول ما تبدّت في علاقتي بفاطمة، زميلتي الرزينة في الصَّف الدراسي، كنت أكنُّ لها، فيما سبق، مودةً و احتراماً مستحقين، و لكن ما أن شعرت باهتمام زائد من استاذ عز الدين بها، حتى تحوَّلتْ في نفسي إلى شيطانٍ أشر، و برغم اني لم أُدرك سبب كراهيتي المفاجئة لها في البداية و لم أجد مُسوغات لمضايقتها و لم استطع تبريرها، إلا أنها كانت كراهيّة حقيقيَّة دفعتني لإيذاها ما استطعت و مُطاعنتها* على مدار اليوم الدراسي بطريقةٍ فجة و بوقاحةٍ لاحظاتها بعض صديقاتنا المشتركات، و قالت لي مها:
    – خلي بت الناس في حالا، استاذ عز الدين ليس آخرُ الرِجَال في الدُّنيا!
    و كانت هذِهِ الجُملة، بالذات، هي ما فسَّرت لي شُعوري البغيض تجاه فاطمة، و غيرتي منها على استاذ عزالدين، بموجب الحُب الخُرافيّ، في آنٍ واحِد. و بتُّ على درايةٍ، الآن، أنني أهتم بأستاذ عزالدين ليس كطالبةٍ له، و إنما كإمرأة عاشقة، تدخل دُنيا الغرام من بابه الواسع…
    و رغم أنه لم يكن آخر الرِّجال، كما نبهتني (مها) إلا أنه كان رجل و لا كل الرجال: و سامةً، و فخامةً و استقامة… و كانت جميع البنات يهفون إليه، و أحببن من أجله مادة الأحياء، و كانت حصته تمتاز بالحضور الكامل، و الإنتباه الشديد، و لكنه، من بينهن جميعاً، كان يهتم: لأمــــر فاطمة!… رغم أن الفرق في المعاملة بينها و بينهن، كان يُرى، بالكاد، بالعين المجردة… إلا أنني أحسسته و رأيته بأم العين و سمعته بالأذنين…
    و هكذا، بألف حيلة و حيلة و بأكثر من طريقة استطعت ابعاد فاطمة عن طريق أستاذي عز الدين، و كانت أغلب حيلي غرّة و مكشوفة بحيث إنتبه عز الدين لما أفعله مع فاطمة، و استطاع أن يقرأ مشاعري التي وقفت وراء ذلك كله و صاغته.
    واستمِلتهُ، و مارستَ عليه كلَّ أنواعِ الغنجِ و الدلالْ، و وظفت نداوة جسدَي البض، و طلاوة لساني، في الإيقاع به في شبكة من حبال الحُبْ، و كنت أخترع أسئلة من بنات أفكاري لأثبتَ له: أنني هنا في تلك الدروس الطويلة المملة، لو لا هو، و ما أن أراه خالياً حتى أهرع إليهِ، و أقترِب مِنهُ بحججٍ متنوعة، حتى أتأكد من أنه قد شعر بحرارة أنفاسي… إلا أن أوصلته الحد الذي باح لي فيه بحبه، و كان ذلك قبيل فترة اجازة نصف العام، و كان بالذات سبباً للقاءاتنا خارج المدرسة، مع خطورته على سُمعتنا و رغم أنه كان بعيداً عن الأهل و بدون علمهم… و مشينا أنا و هو لحدود أبعد من التعبير عن المشاعِر بالكلام، فقبلني، و لما لم يكفه أخذني في حضنه، و رغم مُمَانعتِي إلا أنني استحسنته، و بضميري شيءٌ من حتّى، و احساسٌ مؤرقٌ بخيانة ثقة أهلى، التي أودعوها فيني، و هم: مُغمضين!
    و لكن، و في يوم من الأيّام، كان أستاذ عز الدين قد شحذ ذكورته كلَّها، و لم يكتفي بالتقبيل و الأحضان، و حاول يصل إلى ما هو أبعد… و رجوته أن يفيق، و حلفته أن يتركني لشأني… و لكننا كنا في خلوة أعد عدتها هو، و هيجته تلك الأجواء، و صار أقربُ للحَيَوان منه إلى الإنسان، و نسي تهذيبَه و نسى أنه استاذي في المدرسة لا يزال، و هاجمني في سبيل تحقيق مبتغاه و اشباع رغبته. فقاومت بكل ما اوتيت من قُوة، و تمزَّقت اجزاء من ملابسي، و أصيب جسدي ببعض الرُّضُوض و الخُدُوش، كان تفسيري لحدوثها: موضِعُ شكِ ناس البيت… و ارتيابهم، و لا تزال تلك المغربيّة نقطة سوداء في ضميري و تاريخي العائلي.
    و لو كان استاذ عزالدين، قد أخذني باللين و تدرَّج معي، لفاز بمبتغاه، و لدثرته بحناني حتى استغاث، لأنني لم أكن بعيدة عن الرغبة في ملاطفته و الحاجة للمساته الرجوليَّة، بالإضافة لرغبتي في إماطة الغموض عن العلاقات الجنسيّة، و لكنه أرادها عن الطريق العنيف، فلم ينل!
    و كانت هذه التجربة الشائهة، هي أوّل و آخر عهدي بالجنس قبل الزواج، فيما عدا مواقف عابرة لا يعتدُّ بها، و وضعت محاولة استاذ عز الدين التهجم علي وضعت علامة استفهام في رأسي عن جنس الذكور، و حفزتي للإطلاع و المعرفة في دنيا الرجل.
    و انصرفتُ بعدها، بكُليَّاتِي، لإشباع هوايات أخرى غير القراءة علَّ ذلك يعزيني و أجدُ فيه السلوى التى ضاعت.
    أمّا استاذ عزالدين فقد زار المدرسة، بعد تلك الحادثة، لمراتٍ مَحدُودة، بيد أنهُ لم لم يدخل فيها و لا فصل واحد، و عرفنا لاحقاً، أنه: ترك مهنة التدريس!… و لم أره بعدها، و لم أسمع عنه شيئاً: لا من قريب، و لا من بعيد!… فقد اختفى من حياتي، تاركاً ندُوباً لا تَمَّحي على جِدرانِ الوِجدان، و أصابعاً من الحسرةِ و النَّدم…
    و ما أن شفيتُ قليلاً من تباريح تلك العلاقة، حتى تقدَّم لخطبتي من أبي إبن عمي (فتحي)، و كان ذلك هولاً جديداً في حياتي العاطفية و وبالاً على علاقتي بأبي… كنت على أعتاب الجامعة، مما حوّل معركة رفضي لفتحي إلى حربٍ مُزدوجة، ذُدتُ فيها بما أملك و لا أملك عن مستقبلي الأكاديمي، الذي كنت أراهُ طريقاً أوحدً، على خلاف أبي، لمستقبلي، بالإضافة إلى إن فتحي الذي كنتُ أكنُّ له مقداراً هائلاً من مشاعر الأخوة، لم يكن بالإضافة إلى ذلك يتمتع بأيٍ من صفات الرجل الذي أتمناهُ و فارس أحلامي الذي أرتضيه… و فزت في المعركة بعد أن كسبت أمي و أخواني إلى جانبي… فعضدوني و انتظموا في صفِّي… و لكن دقَّ انتصاري على أبي أسفيناً في علاقتي به، دون أن يكون لي يد، و لازمته مرارة تجاهي إلى مماته، عليه رحمة الله.
    و عندما تهيج في دواخلي ذكرى أبي الحبيبة، أمرُّ دون أن أُريد، على تفاصيل ما كان من فتحي، فألعنه في سري، و ألعن سنسفيل أهله، لا سيما أمه الحيزبون، سليطة اللسان، التي جعلت من رفضي لابنها كارثة أسريّة، و تسببت عن وعيٍ و قصد في القطيعة بين أبي و أخيه… و التي توقفت بموجبها زيارات بعضهما لبعض، و لم يدخل عمَّي (أبُو فتحِي) بيتَنا إلا بعدَ وفاةِ أبي، و كان مجيئه على مضض كأنما كان مجلسنا: تكسوهُ المسامير.
    ودلفتُ إلى الحياة الجامعية، رغماً عن الدوامة التي أدخلني فيها إبن عمي، تلاحقني لعنات أمّه و سُبابها… لكنني سرعان ما أندمجت في المُجتمع الجديد، المعافى نسبيّاً، و خلقت علاقات عامرة مع زميلاتي و زملائي، و لكنني كنت من بين ثنايا الإدعاء بعدم الإهتمام، كنت أبحث عنهُ وسط زملائي، بالذات أؤلئك الذين يتقدمونني بسنتين أوْ ثلاثة في الدراسة، ذلك هو فارس أحلامي… و أمير قلبي الخالي…
    و حسبتُ أنني وجدته، مجدي، زميلنا في السنة قبل النهائية بالكليّة، و بحذر مستمد من تهوُّر عزالدين و إنهيارِهِ كمثل و فرارِهِ كحبيب، وضعتُ قيوداً من حديد على أنوثتي في التعامل معهُ، و أن كنت أرقب، بقعر عيني، تلصصه و تأثره الشديد، بما يفيض عن حذري من دلع… و لكن، قطع ياسرٌ الطريق على مجدي، كان يبزه رُجولةً و عُنفوان شباب، و كان مُهذباً و كيِّس، فجرفتي مراكب الشوق إلى ضراهُ، بعد أن تركت مجدي، يبلع ريقه، في منتصف الطريق، بيد أن ياسراً كان مرتبطٌ بالعملِ العام، دافِناً رُجولته و احتياجه للجنس اللَّطيف في السياسة، و كان كلما أقتربت منه خطوة، خيل إلى أنه يبتعد خطوات، و بعد محاولات مضنية و فاشلة، أكتشفت أن ياسراً مرتبطٌ بأخرى تفوقني أناقةً، و قيافة، و جمال… تفرُّ الأنُوثةُ من نظراتها و كلماتها و مشيتها… و كانت (مُنى) تشاركه همه العام، و تزامله في تنظيمه السِّياسِي، فأُسقطَ في يدي، فلا عنباً من اليمن و لا بلحاً من الشام…
    و تخرجتُ في الجَّامعةِ، كما دخلتها أوّل مرّة: أبحثُ عن زوجِ المُستقبل و فارسِ الأحلام بين الأقاربِ و زملاءِ العمل.
    و لكني كنتُ أميل للاختيار من بين زملاء العمل… و ذلك لسبب جوهري: (إن شخصيتي الحقيقية و ما أريدهُ فعلاً، كان يبين هناك أكثر، وسطهم!).
    فإن الزمالة تحررني و تطلق يدي أكثر من القرابة، و لطالما قمت بأشياء و قلت كلام باندياح و اريحية ليس لزميلٍ واحدٍ فقط، بل في رهط و وسط جمعٍ غفير منهم، و لم يؤخذ على شيء، بينما من شأن نفس الأفعال و الأحاديث أن تقذف بي في خانة الشياطين و تطلق على جزافاً تهمة الإنحلال و الإنطلاقة، إن هي تمت بين الأقارب.
    و لذلك فأن من يختارني من الأقارب، يختار شخصاً غيري، لست أنا، شخص مكبوت يجاري المجتمع و يضع نفسه في المرتبة الثانية في التصنيف الإنساني، كل مؤهلاته الجسد و إجادة الطبخ و إتقان أعمال النظافة و امتهان التهذيب و الحياء، الشكلي، أغلب الأحيان.
    و شاءت الأقدارُ أن يجيء الخطيب الأوّل من الأهلْ، كان يتفوّق على فتحي من حيثُ الإمكانات و الصفات الشخصيّة، و لم تكن درجة القرابة التي تصلني به تبث أدنى شعور بالأخوة من ناحيتي نحوه… و مع ذلك رفضته بشكلٍ مبدئي بيني و بين نفسي… و مع ذلك واجهت الجميع بقراري: أن لأ!
    و لكن انحازت أمي، هذه المرة، للمعسكر المُضاد، و مارست علي ضغوطاً هانت أمامها ترهيبات الوالد أيّام فتحي: ألف مرّة! و مع ذلك و بالإتصال المباشر مع خطيبي الوهمان، استطعت أن أقنعه بلا جدوى طلبه و غرابة تمسكّه بي، فَلَانَ موقفه، و صار يتراخى رويداً رويداً… إلى أن أعلن، من جانبه، بعد فترة وجيزة من بداية الشورة، أعلن عدم رغبته في مواصلة الأمر.
    و أعتبر الأهل و الجيران ذلك: نقطة تُؤخذ ضدي، و عيباً ساقه القدر إلى داخل سياج سيرتي الناصِعة، و كانت، بالحق: ظلُوُمَة!… إذ لم يكن لي، فيما جرى، لا ناقةٌ و لا جمل.

    و لم أجد وجيعاً أو ناصحا من الأقربين سوى مها، التي أمطرتني بوابل من أمطار فلسفة الحب و الزواج، و لكنها لم تلمنى على قراري… قالت مها و هي تتمطق كوب القهوة أمامها:
    – (الحب، يا غَادة، هو الذي يجعل للحياة طعم ولون وفيه التضحية و النديّة و قبول الآخر، سواء كان من الأقارب أو الأباعد… لاتحده حدود، امَّا الطريق الثاني، فهو: الاختيار، وهو ليس بالضرورة بدافع الحب وحده، ولكنه وسيلة يبحث فيها الشخص عن احتياجاته الشخصية، فيرسم العلاقة، ويوظفها علي هذا الاساس، و هو يشبه ورشة العمل، تفصَّل فيها الاشياء بدقة، ويُدفع فيها المُقابل علي حسب جمال الزوجة أو مؤهلاتها الأخرى. و الزوجة، اذا ما رأت ان الزوج يوفر لها الاستقرار المادي والحياة المترفة فستكون أميل للقبول!… فارجِعي بصرك كرَّتين، و أختاري أيَّ طريقٍ ستسلُكين!)…
    لقد هزّت كلماتها وجداني، و أفحمت تسآؤلاتي، و ظللت أتملاها لزمن… و تمنيت أن أتزوج عن حب من أحد زملاء العمل.
    و لكن، ما جرى فعلاً هو: أنني أحببتُ هاشم زميلي النزق في القسم، حُبّاً صامتاً لم يرَ النور، و تزوجت بضغوط تقدم العمر، و لهفة أمي، و نصائح مها و صديقات أخريات، تزوجت من قريب لي من الدرجات البعيدة، و ها نحن نستقبل طفلنا الثاني و أنا أشعر معه بالأمان و بأنني سعيدة به وفيّة له، و هو، بدوره، لا يزال: يحتفي بي بشكلٍ دائمٍ، كامرأة تُكرمه و تملأ عليهِ حياتَهُ، و يستمِيت في أرضائِها و يَوَد أن يجلب لها، إن استطاع: لبنَ الطيرِ.
    ــــــــــــــــــــ
    *مُطاعنتها: تجريحها بكلام غير مُباشر