جَارُ النَّبِي

    0
    739

    عادل سيد أحمد

    كان كل من يعرف جار النبي على يقين من حسن حظه، ومن فأله الطيب فيما يخص جميع مناحي الحياة، ولكن في الآونة الأخيرة، والعشر سنوات الماضية على وجه الخصوص: لازمَهُ الحظ العاثر، وألم به النحس، في: كلما يرتبطُ بالسكن و بيوت الإيجار…فعاش، بمصادفات غريبة، بعضها طريف والآخر مُحزن، في حالة من اللجؤ و عدم الإستقرار.
    ولم يستطع، طيلة هذه السنوات العشر ،ان يسكُن داراً ويستقر فيها، ويألف الجيران، لمدة تزيد، في جملتها، عن ستة أشهر…
    ولم يكن رحيل جار النبي، في أغلب الأحوال، كرحيل العرب: عزّاً و وجاهة، بل كان (جار النبي)، يفارق جيرانه وداره: مرغما ذليلا، لا بطل! و كان (فصل الخريف) من أشق الفُصُول عليه، إذ تسبَّب الخريف وحده في رحيل (جار النبي)، على ما يذكُر، هو: أربعة مرّات!
    و في خضم بحثه عن السكن المستقر… تنازل (جار النبي)، أو هكذا ظن، و عمل حارساً لعدد من البيوت تحت التشييد… كان، قلبه على الدوام يُمنِّيه و يُحادثه، بأنها لن تكتمل، في تضاد مع مصلحة المُلَّاك، الذين تناسى أغلبهم (الإيجار) مقابل سكن: جار النبي المؤقت … البسيط!
    و كان لجار النبي معادلات طريفة يخفف بها من ضغوط المعيشة، فعندما كان يبلغ به الضيق، من تأخر المرتب، مداهُ، يذكِّر نفسهُ، عنوة ب: مواعيد الإيجار… فيشكر القدر على جعله الأيام بطيئة تسير بتؤودة و تقدل متهادية، كما يمشي الوجي الوحلُ!
    كان من الطبيعي إذن، أن يبحث جار النبي عن سُكنى، تكون: ملكاً له، يستحيل على كائن من كان، ان يغض مضجعه فيها او يطرده منها، ولكن هذا الحل كان من سابع المستحيلات، لان الطرق الرسمية لأمتلاك أرض حكومية كانت مغلقة في وجهه، و في وجه أمثالهِ من بسطاء القوم، ولأن سعر الارض التجاري، لمن أرادها، كان فوق سقف ما يملكه جار النبي… بل وفوق تصوراته الذهنيّة، المجرَّدة، عن: المبالغ المالية، بشكلٍ عام، وأرقامها الكبيرة، على وجه الخُصوص… فقد كان أكبر مبلغ يعرفه جار النبي هو : (مليون!)، ومع ذلك، فقد كان يرهَب مجرَّد النُّطق بكلمة (المليون)، وتتملكه حاله من التوجُّس، والبلبلة حينما تُذكر، في حضرته، مبالغ أكبر!
    وفي كل مرة كان ينتقل فيها (جار النبي) إلى سكنه الجديد، كان يتعرف، مع سبق الإصرار و التَّرصُّد، على بقالتين على الأقل، ويوطد صلته بالمكوجي…و الفوّال، ويسأل جاره، بعد جسٍ كافٍ للنبض، عن: مكان أو المنزل القريب الذي يزود الحي بالخمور البلدية…
    و لكنهُ لم يكن ليأبه بمحل (الغاز)… لأن تقليد الدين و الجرُورة، لم يصل إلى تلك التجارة الرائجة … المرتبطة بنار الحياة، بعد!
    وكان يبدأ التعامُل، من فوره، بنظام الآجل والاستدانة من البقالة الأوفر حظاً، من الناحية التجاريّة وطريقة عرض البضائع، تليها الأخرى، الاحتياطيَّة، في حالة الحوجة الماسَّة لِ: الشاي، أو الزيت، أو الفحم، أو الأمواس، أو الصابون، أوملح الطعام…
    لم يكن بُطيني أو طُفيلي، و كانت علاقات (جار النبي) بجيرانه: سويَّة … يظللها الإحترام و تكللها المودة و التراحُم… و كان إذا ما دعاه الداعي… يهبُّ خفيفاً في ملمات الحي… و لكنهُ مع ذلك كان يُفضِّل أن يكون تواصله مع جيرانهُ، في أضيق حدود… و كأنه يخاف التعلُّق بهم … لدرجة تُصَعِّب عليه الرحيل المُتوَّقع: في أيِّ لحظة! أو هكذا قالتِ الأيّام…
    وفي السكن الأخير، قبل المجيء إلى هنا، بدأ له ان الامور تسير على ما يرام، وانه قد جاوز الستة أشهر… مما يعني انه قد (قدَّ عين الشيطان)، وان بقائه لا شك سيطول… ولكن، قادته طمأنينتة إلى خطأ فادح، دفع ثمنه بشكل فوري، إذ واصل(جار النبي) التراخي ، عن: دفع الإيجار عن مدةٍ فاقت (الشهور الثلاثة!)، ولم يُحاول أن يسترضي سيد البيت بأعذار كان يمكن ان يقبلها تماشيا مع الظرف العام، وانما استعداه… بدلاً عن ذلك، وتحداه، ولما بلغ به الإحساس بالذُل مداه، وتجمَّعت عندهُ مشاعرُ الهوانِ الشَّخصي، الذي راكمه الرحيل من ثمانية عشر بيتاً، على الأقل، قال منفُوشاً، و بجسارة تفوق جسارة طارق إبن زياد:
    دا العندي، وأعلى ما في خيلك: أركبو!
    وفعلا، استجاب صاحب البيت للإستفزاز، وركب بزَّةً رسميةً، تعلُوها الدبابير، كان يتمشدق بها أحد أقاربه، مُصطحباً إيَّاه في الصباح إلى قسم البوليس.
    وماهي إلا أيَّام، حتى اطاحا، سيد البيت و قريبه، باستقرار جار النبي، وطردوه من المنزل شرَّ طردة، قاذفين عفشهُ القليل، المتواضع، بلا رحمة، إلى قارعة الطريق!
    و لكنه، في مرّة أو مرتين، رحل طائعاً مُختاراً… عندما (سمسر) في بيته، وفق تفكير (جهنمي)، لم يسبقهُ عليه أحد، ليؤجره لمن يجد في نفسه الكفاءة، و المقدرة، فيسكُن… أمّا هو، فيستفيد من (خلو الرجل)، و عمولة إضافيَّة، عبارة عن حفنةِ جُنيهات، يدفعها (سيد البيت)، من: (مقدم الإيجار! )…
    و في بعض الأحايين، كان (جار النبي) يلجأ لتأجير هذه الغرفة أو تلك من مسكنه الصغير، بغرض الحصُول على بعض الجنيهات، القليلة، كانت على قلَّتها، تعينهُ في تسيير أمور الحياة و تصريف عوادي الدهر… و كان في مثل تلك الأحوال، يحرص على عدم إطلاع المؤجرين بالأمر، و يُحبذ جهلهم و عدم معرفتهم به… فإن عرفوا، يدعي إن من يشاطرونه السكن هم من أقاربه أو أصدقاء طفولته، أو زملاء دراسة!… و قد أعانتهُ، بعضُ تلك الجنيهات في الإيفاء بإلتزامات، و القيام بمهام، جليلة، ما كان له بها قِبَلْ… منها: مساهمته، مرَّتين، في إقامة مراسم تزويج أختيه اللائي يصغرنهُ مباشرة، و كان ذلك مفاجئاً … و لكنهُ كان أيضاً، مصدراً لسعادة لا توصف، لأبيه، و بعض أفراد أسرته، من الذين يعرفون: البير و غطاها… و لسان حالهم يقول:
    يجعل سرُّو في أضعف خلقهُ!
    و قد كانت (المرَّة الوحيدة) للرحيل، التي يمكن تفاديها، عندما: سكن (جار النبي) بجوار المسجد، للاستفادة من حماماته، اذ كان البيت على بهائه، يخلو من: (المنافع!)…
    ولا ضرر، فقد كان (جار النبي) يعمل في الوردية المسائية… و تخلو له الحمامات، و يصفو لهُ الجو، في آوان ذهابهِ للعمل، بعد صلاة العشاء، و إيابهِ عند الفجر، وماهي إلا شهور معدودات حتى تم تحويله إلى ورديّة الصباح، بحيث لم يعُد قادراً على المزاحمة اليومية في الحمامات، فجر كلِّ يوم…
    وكان ذلك أثر مُشادة، لا داعٍ لها، مع رئيس وردية الليل، في أمر ٍكان: (قابلاً للحل!)، من أمور العمل… و أودت به المُشادّة إلى الورديَّة الصباحيَّة، وقد كان (جار النبي) في خضم انفعاله قد نسى أمر الحمامات وارتباطها بزمن الوردية، وإلا لكان إرعوى وصمت شأن الكثيرين من زملائه الذين صمتوا، ولا يزالون، لشئٍ في نفس يعقوب، كلٍّ: حسب (مأساته!)…
    [email][email protected][/email]